( رجلان ..وامرأة )
(مجموعة قصص)
بقلم
فيصل خشافه
===========================================================
نيران الإغتراب.
" جريمة بشعة تهزّ أركان المجتمع اليمني ..مراهق يقتل والديه ، بدافع
الشرف..! "
يعيد قراءة تفاصيل هذه الحادثة مراراً وتكراراً ..
ثم يطلق العنان لضحكاته تارة ، ودموعه تارةً أخرى..
ولا يلبث أن يضع قصاصة الجريدة التي تحوي تفاصيل الحادثة بين دفتي كتاب
بجواره ، ويخر على وجهه فوق فراشه منهاراً شبه مغشياً عليه..
ليفيق بعد لحظات على وخز إبرةٍ في ذراعه تخرجه من حالته التي دخل فيها منذ سنةٍونصف تقريباً ، إثر قيامه بهذه الجريمة الشنعاء ، والتي نفذها دون أن
يعلم شيئاً عن حقيقة الموقف بين والده ووالدته..
ينظر الى الطبيب الذي حقنه نظرةً زائغة ، ثم يغمض عينيه ليستعيد تفاصيل تلك الحادثة التي سببت له مرضاً نفسياً أصبح إثره على شفير الانهيار..
خصوصاً بعد أن قامت المحكمة بالعفو عنه من جريمته التي اقترفها بحق أقرب الناس إليه ، دون وعي أو إدراك ، وفي غياب جزء كبير من الحقيقة التي كان يجهلها..
وبعد تدخل كافة أسرته_ أو بالأصح ما تبقى منها_ لتخفيف الحكم عليه ، لأنه
كان وحيد والديه ، وكان يجهل حقيقة الرجل الذي قتله مع أمه ذلك اليوم..
بالإضافة الى إندفاعة الشباب المراهق وطيشه..
كل ذلك جعل المحكمة تصدر قراراً بالعفو عنه..
وكم كان يتمنى أن يُلحقوه بوالديه ، لكي تنتهي عذاباته ومعاناته التي أوصلته
الى حافّة الجنون..!
عاد بذاكرته الى الوراء ..
الى ذلك اليوم ، حيث كان عائداً من مدرسته ، في قريته النائية التي اشتهرت
بكثرة مغتربيها ، وطول فترة بقائهم في بلدان الاغتراب..
وكان أباه أحد هؤلاء المغتربين ، الذين أطالوا في غربتهم حد أنه لا يعرف شكل
والده ، الذي غادرهم وهو لا يزال في بداية ربيعه الخامس..
كما أن والدته لم تكن تحتفظ حتى بصورة " فوتوغرافية " لوالده..
فنشأ وترعرع حتى وصل سن المراهقة ، وهو لا يعلم عن أبيه شيئاً سوى انه في
الغربة ، وأنه لن يعود قبل مرور عشر سنوات على الأقل..!
كان كأنه يتيم الأب ، يتمنى أن يتعرف على والده..
يريد أن يتذوق شعور أن يكون بجوار والده كبقية أصدقائه..
تذكر عندما تم تكريمه في المدرسة ، وأن كل أقرانه حضروا برفقة آبائهم ، وكانوا فخورين ، إلا هو ، لم يأتي معه أحد ..
لشدّ ما كان يؤلمه ذلك ، لكنه تعود على عدم وجود أبٍ في حياته ، وعاش مع والدته على هذا الأساس..
وفي ذلك اليوم المشئوم ، كانت قد مرّت تسع سنوات لم يرَ فيها والده ، أو يسمع
بأخباره..
وبينما هو يدلف ، عبر باب البيت ، الى الداخل سمع صوت ضحكات متعالية مصدرها أمه ، تنبعث من غرفة نومها ، وصوت شخص ما يداعبها ويلاطفها ويبادلها الضحكات..
شعر أن الأرض تميد به.. وأن قدماه لا تكادان تحملانه..
_ لا يُعقل هذا..!!!؟
أخذ يردد في نفسه..
_ أمي رمز الطهارة والنقاء..! .. أيمكن أن تفعل ذلك..!! ؟
لا ..لا ..لا أصدق هذا..!!!
حاول طرد هذا الهاجس من رأسه..
اقترب أكثر ليتفاجأ أن شخصاً ما مع أمه في سريرها..!!!
إرتدّ كالمصعوق..
زاغ بصره..
وتلاحقت أنفاسه..
وضاقت عليه الأرض بما رحبت..
_ يا إلهي .. هي الحقيقة إذا..!
تردد صدى الكلمات في قلبه كصوت الطبول ..
أحس بالإختناق..
كاد يُجن..
لم يشعر إلا وهو يتجه الى جدار ردهة المنزل ، ليتناول بندقيةً آليةً ثم يندفع الى غرفة نوم والدته ، ليفرغ خزانة البندقية بكل ما فيها من رصاصات في الجسدين الممدين على السرير..ونظرات أمه _ التي كانت وكأنها تريد ان تقول شيئاً _ كانت آخر ما رأت عيناه ..قبل أن تلفظ أنفاسها..
وقبل أن يسقط هو مغشياً عليه..!!!
" انتهت "
السياني،، ١٦ _ يونيو _ ٢٠٠٧
===============================================================
الرجال الذين قالوا.. " لا ".
دوّت أصوات أجراس الجمع في أرجاء المعسكر المترامي الأطراف ، والذي يعد من أكبر المعسكرات في تلك ( الجمهورية الملكية ) من حيث عدد أفراده..
فهذا المعسكر وغيره من المعسكرات ، أُنشئ أساساً لغرض إمالة كفّة الحزب الحاكم في الإستفتاءات والانتخابات الشكلية ، التي تقيمها الأحزاب الحاكمة في بلدان العالم الثالث ، بغرض إلهاء الشعوب وزرع الفتن بين أبناء البلد الواحد ، ومن جهة أخرى ليثبتوا للعالم المتقدم أنهم بعبقريتهم الفذة وسياساتهم الفريدة _ التي لا ينافسهم فيها الا الديك في مزرعة كلها دجاج _ يثبتوا لهم انه باستطاعتهم تفصيل ديمقراطية _ عالم ثالثية _ على مقاس شعوبهم التي لم يكتفوا بتصنيفها ثالثاً ، بل انها تتهاوى في هوّةٍ ليس لها قرار..!
المهم ان الجند إثر سماعهم لهذا النداء انهالوا على ساحة الجمع الرحبة ، من كل حدب وصوب ، كأنهم جرادٌ منتشر..
انتظمو في صفوف متتالية أمام منصة العرض التي انتصب قائد المعسكر واقفا عليها ، وحوله قادة الكتائب والأركان والمسؤلون في هذه الثكنة العملاقة..
بعد أن حياهم خطب فيهم قائلا:
_ تعلمون ان الاوضاع في البلد غير مستقرة ، بعد وفاة الرئيس السابق وتعيين نجله رئيساً للبلاد ، للحفاظ على استقرار البلد وحمايته من التمزق او الدخول في حرب أهلية لا يعلم الا الله ما ستنجم عنه ..
كما أن الأعداء يتربصون بنا الدوائر ، ويشككون في شرعية الرئيس الجديد ، وينتظرون سنوح الفرصة لينقضوا على هذا الوطن المعطاء ..
وطن الآباء والاجداد ، ليعيثوا فيه الفساد ويشعلوا نار الفتن..
لذا قرر سيادة الرئيس عمل استفتاء شعبي ، ليثبت للعالم شرعيته وأحقيته بمنصبه الذي منحه له الشعب ، فهو من الشعب والى الشعب ، ولا همّ له العمل على رقي وتقدم هذا الشعب الأصيل المعدن والكريم المحفد..
إذا فما عليكم _ عرفانا بالجميل _ إلا خوض هذا الإستفتاء والتصويت بنعم للرئيس القائد ، نصير المظلومين ورمز عزتنا وكرامتنا ، والآخذ بأيدينا الى مستقبل مشرق..
مالم فإن طامةً كبرى ستعصف بهذا المعسكر ، وعاصفةً هوجاء ستقتلع ثكناته وخيامه وترمي بجنده الى قارعة الطريق ليكونوا طعاماً للسباع..
هذا وقد أعذر من أنذر..!
قالها وصرف الجنود بعد أن أدّوا التحية العسكرية ، ثم اتجه بصحبة ثُلّة من القادة المقربين الى مكتبه ليتناقشوا في هذا الموضوع..
قال ركن التوجيه المعنوي في المعسكر:
_ لقد نفذنا التعليمات بحذافيرها ، والمسئولية الآن ملقاة على عاتقنا ..
فالإستفتاء سيكون غداً ، والمطلوب أن نصوت بنعم لأننا لنا ثقلنا وتأثيرنا على مجريات الأمور..وإلا فالويل لنا..!
التفت قائد المعسكر ناحية القادة من حوله وقال:
_ لا عليك ..نفذوا التعليمات وحسب..هيا ..كلٌ يذهب الى كتيبته لينجز المطلوب منه ، ويضمن نجاح الإستفتاء على الوجه الأكمل..
انطلق الجميع الى كتائبهم ، وبقي القائد وحيداً يفكر في هذا الأمر الذي يجب أن يخوضه ويعلن الولاء المطلق للرئيس الجديد ، من خلال التصويت ب " نعم" للرئيس ، فالمسؤلين يعولون عليه في إخضاع الجند لمشيئة الرئيس ، فبضمانه الأصوات داخل المعسكر ، فإنهم سيضمنوها خارج أسوار المعسكر بكافة وسائلهم وأساليبهم المشروعة وغير المشروعة..
حزن كثيراً لحالة الشعب المغلوب على أمره ، والذي يُورّث كالمتاع من الرئيس لنجله ، والمتجرع للغصص الواحدة تلو الأخرى بصبرٍ وخضوعٍ عجيبين ..!
فعزا ذلك للجهل والقهر وعدم الوعي..
فأنّبه ضميره وشعر ان عليه دَيناً لهذا الشعب الصابر المحتسب ، ويجب عليه ان يرد ولو جزءً من دَينه ، لان لديه وعياً وبقايا من ضميرٍ مستتر..!
لذا أبرم في قرارة نفسه أمراً استقر عليه ، فأغلق جفنيه ثم نام استعدادا للإستفتاء صبيحة اليوم التالي..
كل تلك الأفكار والهواجس دارت في رؤوس قادة الكتائب كلٌ على حده ، وهموا بأشياء أضمروها لوقتها..
مع شروق شمس اليوم التالي كان الجميع يتأهبون للإدلاء بأصواتهم ..
وعندما حانت ساعة الأستفتاء كان أول جندي داخل " كابينة" الإقتراع يحدث نفسه :
_ لماذا لا أقول " لا " وأعيش لحظة واحدة ، من لحظات حياتي ، أمارس فيها حريتي ..
أُدلي بصوتي بمحض إرادتي ، دون ضغط أو إكراه..
لا ضير فصوتٌ واحدٌ لن يؤثر حتماً في نتيجة الإستفتاء المحسومة مسبقاً ، فهو كذرة رمل في صحراء ..!
* * *
بعد الانتهاء من فرز الأصوات ، وظهور النتيجة ، إنطلق ركن التوجيه الى مكتب القائد مهرولا ، وهو يندب ويلطم كالنائحات والثكالى ويصيح مولولا :
_ سيدي ..إنها لعمري نكسة النكسات..وكارثة الكوارث..!
صاح فيه قائده وقد انتفض من مقعده قائما:
_ ما بك يا رجل ..ماذا جرى..!!؟
رد عليه بصوت كالبكاء :
_ لم يصوت أحد بنعم للرئيس ..المعسكر بأكمله _ وعن بكرة أبيه _ صوت ب" لا " ..قُضي علينا ..انتهى أمرنا..
* * *
ورغم كل ذلك فإن الرئيس أعلن فوزه بنسبة كبيرة جداً ..
حيث استطاعت قوى الفساد والتزوير أن تضمن النجاح خارج أسوار المعسكر ، الذي خيب ظن الجميع ..
وبالرغم من ذلك أيضاً لم تزور نتيجة المعسكر ، بل أُعلنت كما هي من قبل الهيئة المختصة بالاستفتاءات والانتخابات ، وبمباركة الحكومة التي رأت أن هذا الموقف ، من قبل أفراد المعسكر _ قادةً وأفراداً _ لم يكن بتحريض من المعارضة التي تحتاج الى التذكير دائما بأنها معارضة..
لأنه ليس لها من المعارضة سوى الإسم..!
فهي منشغلة بالصراع بين فصائلها تارة ، والتسكع أمام أبواب الحزب الحاكم لعرض خدماتها عليه وتزيين وجه النظام القبيح تارة أخرى..
ولأن هذا المعسكر كان عبارة عن دائرة مغلقة خاصة بالحزب الحاكم..
وكانت نتيجة هذا الموقف ان تحول المعسكر الى ساحة لتصفية الحسابات ، ودفع ثمن قول كلمة " لا " .
أما هيئة الاستفتاء والانتخاب فقد أعلنت نتيجة الاستفتاء ..
حيث هبط المعدل درجةً واحدة في جميع الخانات المكونة للنسبة الخالدة " ٩٩'٩٩" معلنةً _ ولأول مرة في تاريخ ديمقراطيات العالم الثالث _ فوز الرئيس ( الملك) بنسبة " ٨٨'٨٨" بالمئة ..
بفضل رجال ٍ قالوا كلمة " لا ".
" انتهت "
السياني.. ١٢_ مارس _ ٢٠٠١
================================================================
رجلان وامرأة.
( نشرت في صحيفة الثقافية اليمنية)
كانوا ثلاثة _ رجلان وامرأة _ يعملون كممرضين في إحدى مستشفيات المدينة..
الاول كان ( علي ) يعتبر زير نساء ، لكثرة علاقاته الغرامية وانكبابه حد الغرق ، في جحيم من القبل كما يقول موسيقار الأجيال ( محمد عبدالوهاب) ، وتقلبه في جنان بطائنها من شفاه ، رغم أنه متزوج..
وكان يعاقر الخمر ويعُبّ الكؤوس مع الندامى عباً ، كما أنه لا يحل حلالاً أو يحرم حراماً ، وبالطبع لم يكن لِيُفلت صيده الثمين _ زميلته الممرضة( نرجس) _ لأنه بذلك سيكون قد أهمل في دروسه الماجنة ، وكسب سخط أستاذه العظيم إبليس ..
فزميلته ( نرجس) كانت بمثابة الفتنة المجسدة ، ببشرتها البرونزية وجسمها الممتلئ دون إفراط ، وصدرها المكتنز ونظراتها الممتلئة جوعاً وحرماناً ..
فقد عرف أنها مطلقة ولديها طفلة وأبوين تعمل لإعالتهم ، مما استثارحماسه وألهب خياله ، وسرعان ما نسج الشيطان حباله بينهما لتنضم الى قائمة عشيقاته اللاتي لا تنتهي ولن تنتهي ..
أما ثالثهم فكان ذلك الشاب الهادئ الخجول الملتزم ( سهيل) الذي كانت أُذناه تحمرّ خجلاً كلما ألقت عليه ( نرجس) تحية الصباح ، فكان يرد تحيتها وهو منبهر الأنفاس مختلج الفؤاد لفتنتها وسحرها ، إلا أنه كان يحاول جاهداً إخفاء رغبته ومشاعره نحوها..
كان من ذلك النوع المصاب بالحرمان لسنين طويلة ، تتقادم به السنون وهو لم يتزوج بعد ، ولم يذق طعم امرأة أو يشم رائحتها في حياته ، إذا استثينا أمه طبعاً.
كانت الرغبة تعربد بين أضلاعه ، وتكوي أحشاءه عندما يراها ، إلا أنه يملك زمام نفسه ليبدو أمامها وكأنه مثال على الطهر والاستقامة والعفة ..
نعم هو كذلك لكن سنوات الحرمان في انتظار الزواج الذي تأخر ، بالإضافة الى ذلك الجسد الأُفعواني الملفوف والممتلئ شبقاً حتى أطرافه
بدءا في تحطيم ذلك السياج من الورع والتقوى المحيط بشخصيته..
كانت لا تفتأ تبارح مخيلته كل ما اختلى بنفسه ليلاً أو نهاراً ..
وكان مما يزيد ناره استعارا أنه كان على علم تام بما يدور بين ( علي) و( نرجس) من أدق التفاصيل ، وما أدراك ما أدق التفاصيل في خيال شاب ٍ محرومٍ من حنان امرأة .
فزميله ( علي) كان يخبره بكل شيئ ، ويصف جسد ( نرجس) قطعةً قطعة ، مما يُلهب خياله ويزيد في ولعه وحرمانه..
فكان يعرض عليه الدخول الى سوق الهوى والمتعه فيأبى ويقول :
_ معاذ الله .. إني أخاف الله .
إلا أن كل ذرة في كيانه كانت تصرخ بالرغبة والإشتهاء ..
وكان عندما يخلو بها في غرفة الإستراحة ، ولم يعد من ثالث لهما سوى الشيطان ، كانت تحدثه عن حياتها الخاصة وأسرتها الصغيرة ، وهي جالسة بجواره وأطراف ثوبها تلامس أقدامه وأنفاسها تلفح وجهه ، وهو يشم عبير عطرها الفواح فيكاد يخرج عن طوره ، فينهي الجلسة بشكل فظّ قبل أن يتصرف تصرفاً طائشاً يخرجه عن إطاره الذي حجّم نفسه فيه .
_ يا الله ..
كم يعيد تكرار مثل هذه المشاهد في رأسه عندما يأوي الى الفراش في مساءاته التي تتطاول حتى لا تكاد تنقضي ، وهو هائم في أحلام اليقظة ، يفكر في تلك الحسناء التي سلبت عقله وخلبت لُبّه .
كان الصراع على أشده بين ملاكه وشيطانه ، فكان يستسلم أحيانا لشيطانه ويقرر أن يذهب في الغد ليلقي بنفسه بين أحضانها ، فيحدث ما يعكر تلك النية وتلك الرغبة ، فيعود وقد ثاب الى رشده ليحمد الله أنه لم يقع بعد في المحظور.
ذات صباح تلقى زميله ( علي) نبأً سيئاً مفاده ان صديقه وشريكه في مغامراته ومتعه ، قد لقي مصرعه وهو في قمة شبابه ، فتلقى ( علي) الخبر كصاعقة هزت كيانه وزلزلت الأرض من تحت قدميه ، وكانت هذه الحادثة هي نقطة تحول في مصير ( علي) غيرت مسار حياته ، فقد ترك العمل في المستشفى وعاد الى قريته ليعمل في مركزٍ صحيّ بعد أن تاب وآب ، وهوكذلك يعلم أبناء قريته القرآن .
أما ( سهيل) فالأمر لم يُعنهِ بشيئ ، وكأن موت صديق ( علي) يخص ( علياً ) فقط أما هو فالأمر لا يخصه من قريب أو بعيد ، فلقد بدأ الشيطان يلقي حبائله في طريقه ، وجذبه الى أحضان ( نرجس) بعد أن خلى له الجو بابتعاد ( علي).
أصبح الان أكثر جرأة في التعامل معها والإقتراب منها ، أما هي فقد لاحظت تحوله بعد أن نجحت في طباخته على نار هادئة طيلة الفترة السابقة..
وأخيراً دخل جنتها ، وهو ظالمٌ لنفسه ، بعد ان ظل لمدة سنةٍ كاملةٍ واقفاً على بابها يتردد في طرقه ..
وفي ذلك المساء الذي احتفلت فيه الشياطين بذلك العضو الجديد المنظم ، كان
( سهيل) يغادر شقة ( نرجس) بعد أن ذاق _ ولأول مرة _ طعم الحب المحرم ، وودع _ إلى الأبد _ حياة الحرمان التي ظل يكتوي بما يتصور أنه نارها ..
وانطلق عبر الشارع وهو يلتفت الى الشرفة التي كانت تحتلها ( نرجس) وهي تلوح له بأناملها ، وابتسامة واسعة تكلل وجهها ..
ابتسامة ظفر بشخص كان لها شرف افتضاض "عذريته" ، واكتشاف فحولته..!
كان يبادلها الإبتسامة عندما رأى ملامح وجهها تتبدل بسرعة الى ارتياع وجزعٍ شديدين ، ثم سمع صرختها التي رددتها الشوارع الخالية في تلك الساعة من الوقت ، وكان هذا آخر ما سمعه عندما اصطدمت به سيارةً مسرعة ، قذفت به ثلاثة أمتار في الهواء قبل أن يرتطم رأسه بجدارٍ مجاورٍ فارق على إثره الحياة..
..........................................................................................................
( نرجس ) تعمل الآن في جمعية خيرية يمتلكها زوجها ، رجل الخير الذي تزوجها بعد أن أُعجب بتدينها وتفانيها في أعمال الخير التي تقوم بها لخدمة الفقراء والمعوزين..
" انتهت "
السياني.. ٢٧ _ مايو _ ٢٠٠٤.
=================================================================
الرمال الحية.
" قصة من الخيال العلمي "
بعد عودتي من أداء خدمتي العسكرية في صحراء الربع الخالي على حدود سلطنة عمان ، لم أجد ما أحمله معي كتذكار عن هذه الصحراء سوى كمية من الرمال ، أودعتها قنينه بلاستيكية أخذتها معي الى قريتي ، حيث كنت تقريبا أول مواطني قريتي تطأ أقدامه هذه البقعة من اليمن ..
وكانت كمية الرمل التي أخذتها عجيبة بحق..!!!
فلقد كانت أكثر تماسكاً وأشدّ لمعاناً ، وكأنها بللورات ذهبية لا مجرد ذرات رمل عادية..
كما أنها تختلف عن الرمال الأخرى بكونها ناعمة للغاية ، ورخوة لدرجة تبدو أن فيها نوعاً ما من الحياة..!
وكان هذا هو سبب أخذي كمية الرمال كتذكار..وهو غرابتها..
المهم أنني بعد عودتي الى منزلي ، وضعت تلك الكمية من الرمال في اصيص ، ووضعت فيه نبتة من نبات الزينة ، وأنا أعتقد أنها لن تنمو حتماً ، ولكنني لسبب لم أفهمه قررت خوض التجربة..
وبدأت أتعهد النبتة بالماء والسماد ، ولشدة إندهاشي وتعجبي فقد نمت النبتة وترعرعت بشكل غير طبيعي او إعتيادي ، وكأنها تنمو في بيئة معدّة خصيصاً لها ، وكنت ألاحظ كثرة إقتراب الحشرات منها ثم إلتصاقها بها وكأن شيئا يجذبها ، وبعدها تفارق الحشرة الحياة..
لم أُعِر الأمر أهمية في البداية ، إلا أن نمو النبتة الغير طبيعي وتضخمها والتهامها للمزيد من الحشرات وبأحجام مختلفة ، وكذلك نصائح أمي وطلبها المتكرر بأن أنقل هذه النبته الى خارج المنزل في الفناء الخارجي ، جعلاني أهتم أكثر بهذه الظاهرة العجيبة ، فنقلت أصيص النبات الى الحديقة الأمامية للبيت ، وأنا أفكر في هذه النبته التي كانت مجرد نبتة زينة عادية ، يمتلئ بها المنزل ..
الا ان هذه النبتة بالذات كانت تبدو وكأنها تخفي سراً لا يعلمه الا الله..
بعد أن عجزت عن تفسير هذه الظاهرة ، تجاهلت الأمر مرةً أخرى الى أن عُدت ذات يوم فوجدت قطتي المسكينة مستلقية بجانب النبتة وقد فارقت الحياة ، وآثار هجوم عنيف تبدو حول عنقها ووسطها فصحت بأمي :
_ أماه ..من الذي قتل قطتي بهذه الطريقة الوحشية ..!؟
أجابت والدتي مندهشة:
_ لست أدري ..ولا يوجد بالبيت أحد ، فأشقاؤك في المدرسة ، وانا منشغلة بإعداد طعام الغداء .والقطة خرجت للتو من المطبخ فلا يعقل أنه تم قتلها بهذه السرعة ..!
ذُهلت للأمر ، فتركت أمي تواصل حديثها وعدت الى تلك النبتة وأنا غارق في التفكير بأمرها ، وقد شغلت بالي كثيراً ..
دخلت الى غرفتي أقلب الأمر في رأسي على كل الوجوه ، وانتبهت فجأة الى أن
الأمر ربما يكون متعلقاً بالرمال العجيبة التي أحضرتها من الصحراء..!
تذكرت ايضا البقعة التي أخذت منها عينة الرمال تلك ، كانت عبارة عن منطقة منخفضة ، تشبه الفجوة الناشئة من سقوط نيزك على سطح الأرض ..
وكانت البقعة منتظمة الحواف ، وتختلف كثيراً عن المناطق المجاورة لها ، حيث أنه لا نبت صحراوي فيها ولا زواحف ..
ربما كانت من أثر نيزك ضرب تلك البقعة يوما ما ، وقد أتت من الفضاء الخارجي وتحمل نوعاً من الحياة البدائية ، بكتريا او فيروسات او أي كائنات حية دقيقة..!
وأنها في قلب الصحراء لم تجد الوسط المناسب لنموها ..
وعندما أتيت بها الى منزلي ربما أثرت فيها المياه والرطوبة ودرجة الحرارة المنخفضة والسماد ، فاجتمعت كل تلك العوامل وربما عوامل أخرى ، وأعادت لها الحياة ، فانتقلت الى تلك النبتة وأظهرت فيها كل تلك الظواهر العجيبة ..
بدأت أرتاح لذلك التفسير ، عندما شقّ مسامعي صوت أحد الأرانب في الحديقة وهو يطللق أصوات عالية ، وكأنها نداء استغاثة ، لم يلبث ان توقف فجأة..!
فهرعت الى مكان النبتة لأجد أنها قد التفت حول الأرنب المسكين ، وانتزعت منه الحياة ، لتعود ساكنة هادئة وكأن شيئاً لم يكن ..
فبدأت أخاف وأقلق..
وقررت أن أتخلص سريعاً من كمية الرمال هذه مع النبتة تلك ، قبل أن تتضخم مشكلتها ويستفحل أمرها ، ولا يعلم الا الله ما ستؤول اليه حالتها..
فكرت بالطريقة المناسبة للتخلص منها ، وهداني تفكيري الى حرقها..!
لأنني قرأت أن النار تغسل الشرور..
وهذا شرٌ مستطير ، قدم إلينا من ماوراء النجوم ، ولا بد من حرقه
والتخلص منه..
أخذت الأصيص بما يحويه من نبات ورمال ، كما أخذت جثتي الأرنب والقطة أيضا ، واتجهت الى تنّور حجري قديم في طرف الحديقة ، أضرمت فيه النار ..
فقد قررت التخلص من كل أثر يمكن ان يبقى ، أو يهدد الحياة والامن على سطح هذا الكوكب ، بعد أن أخذت على عاتقي مهمة تطهير الارض من الخطر القادم من الفضاء ، فقد اعتبرت القضية قضية أمن كوكب وأنني أنا المسئول عنها..!
ألقيت بالنبتة والرمال والحيوانات الى قلب ذلك التنور المضطرم ، وقعدت أنظر الى النار التي التهمت كل ذلك بشراهة ..
وأُقسم أنني قد سمعت ساعتها أصواتاً خافتة تنبعث من قلب النار ..
أصواتاً تعاني آلاماً رهيبة ، وكأنها لشياطين في أعماق الجحيم..
إرتجفت لهول ما سمعت الا أنني تماسكت ، وانتظرت حتى أتت النيران على كل شيئ ، ودفنت التنور مع الرماد المتبقي في حفرةٍ عميقةٍ جافة ، بعيدة عن الماء والنبات للحيطة والحذر ، وعدت أدراجي الى حيث كانت تقبع تلك النبتة اللعينة جوار باب البيت ، فرأيت على إطار الباب ذبابة حجمها أكبر من اللازم ، وتبدو عليها تحورات وراثية تجعلها مختلفة عن بقية الذباب المعروف ، خصوصاً عيونها التي كنت أراها بوضوح ترمقني بحقدٍ وغلٍ ، وكأن بيننا ثأر..
ثأرٌ لا بد من الأخذ به..!!!
" انتهت "
السياني .. ٢٨ / مارس / ٢٠٠٤
=====================================================================
تمرد
قلت لصاحبي الذي التقيته بعد طول غياب ، عقب تسلمه وظيفته وممارسته لمهنة التدريس في إحدى القرى :
_ كيف وجدت مهنة التدريس ..؟ لعل في داخلك ثورة توشك على الانفجار نظراً لضخامة المسئولية الملقاة على عاتق المدرسين المخلصين .. وقليلاً ما هم..
أجاب قائلا:
_ صدقت والله .. فالمدرس المخلص أصبح نادراً في هذا العصر لأن كل مدرس أصبح همه هو أداء عمله الروتيني طوال الشهر ، انتظاراً لراتبه آخره ، خوفاً من الخصميات..!
كان الله في عوني .. فأنت تعرف أنني انتظرت عاماً كاملاً ، حتى حصلت على الوظيفة ، وهاأنذا أُزجي وقتي في هذه المهنة النبيلة ، بعد الملل والفراغ القاتلين الذين رافقاني لعامٍ كامل ..
فالغربة والوحدة في القرية التي أُدرس فيها لم تبددهما إلا قصة غريبة حدثت لي ، ولا زالت فصولها مستمرة..
_ خيراً ..!!! وما هذه القصة..!؟
قلت لصاحبي وقد أثار اهتمامي..
رد مسرعاً :
_ كنت مؤمناً ، طوال حياتي ، أن الانفتاح والتحرر يبلغان أدنى مستوياتهما في الأرياف..
إلا أنني فوجئت ذات ليلة بإحدى الطالبات اللائي يدرسن عندي ، تأتيني عشاءً حيث أسكن وحيداً ، لتعطيني مظروفاً ثم تنصرف..
ففتحت المظروف لأجد داخله رسالة من هذه الفتاة تبثني فيها إعجابها بشخصي المتواضع ، وتثني على أسلوبي في التدريس الذي نال إعجابها وجميع زميلاتها في الفصل ، وتتمنى مني أن أقبل هديتها المتواضعة ، والتي كانت عبارة عن طقم قلامات أنيق ومنديلاً فاخراً معطراً ..
فلم أنم ليلتها وأصابني السهاد وأنا أفكر في هذه الفتاة ، وتصرفها الجريئ الذي خِلتُ انه لن يصادفني في هذه القرية بالذات ، نظراً للعادات القبلية والتقاليد الاجتماعية المتشددة في هذه الجوانب..
قلت له وانا أحاوره:
_ ولماذا تسمي هذا إنفتاحاً وانفلاتاً .. فأنت تعلم ان التعليم قد انتشر في الارياف وتغيرت بعض العادات _ أقول بعض وليس كل _ وقد تكون الفتاة واقعة تحت تأثير ظروف اجتماعية ونفسية وأسرية ، جعلتها تُقدم على هذا الفعل ، ثقةً فيك ، علماً انك غريب والغريب غالباً ما تسلم له مفاتيح القلوب ، خصوصاً من النساء ، فالفتاة ربما أرادت ان تعبر عن شكرها و تقديرها لك كأستاذ ليس إلا..!
خاصة وان الهدية هدية عادية تعطى كل مدرس ، ولا تفوح منها رائحة أخرى..
او أن الفتاة وجدت فيك الأب المثالي ، بعد أن افتقدت المثالية في والدها ..
قال منفعلا:
_ فكرت في هذا بدايةً ..ولكن نظرات الفتاة داخل الفصل في الأيام التالية ، وحديثها الدائم معي أوقات فراغي ، وكثرة الهدايا التي قدمتها بعد ذلك ، جعلتني أنحو في تفكيري منحاً آخر ، ليس كما تتصوره انت ..!
سألته :
_ وما هي الأحاديث التي كانت تدور بينكم ..؟
رد قائلا:
_ كانت دائمة الحديث عن حياتها داخل أسرتها ، وعن مجتمع القرية القبلي ، وعن أبويها واخوها..
_ وماذا كانت تقول..؟
_ كانت في معرض حديثها عن أخيها تتكلم عن الاوامر والنواهي التي يفرضها عليها ، ليثبت بها رجولته الناقصة ، في الوقت الذي يعطيها رسائل غرامية ، ويطلب منها ان تسلمها لصديقتها ..
وكانت تتخبط في تفسيرتصرفه هذا ، عندما يحل لنفسه ما يحرمه على غيره.!
وكذلك تصرفات والدها ، وهي تراه يثور على أتفه الأسباب في وجه أمها التي لا حول لها ولا قوة ، كما تزعم ، لتكتشف هي وأمها بعد حين أن أباها على علاقة آثمة بإحدى عاهرات القرية ، بعد فضيحةٍ فاحت رائحتها في أرجاء القرية فما كان منهما ، هي وأمها ، إلا الانكماش على نفسيهما والبكاء طيلة الوقت ، لأنه ليس بيدهما ما تفعلانه ، أمام بطش وجبروت والدها..
وكانت ، قبل ذلك ، تسمع من والدها مواعظ وخطباً عصماء عن الدين والفضيلة يتشدق بها ويتلوها على مسامعها ليل نهار..!!!
قلت له وانا استوقفه معتذرا :
_ آها..الان توضحت لي الصورة .. فالفتاة بالفعل واقعة تحت ظروف عائلية ونفسية قاهرة ، فهي تسمع شيئاً وترى شيئاً عكسه ..
حيث تشاهد الفتاة أباها وأخاها دائمي اللوم عليها .. وحصارها وإحاطتها بطوق من الممنوعات والمحظورات ، يجب ان لا تجتازها ..
واستخدام أساليب الترهيب والترغيب ، وتوسيع دائرة المحرمات والعيب والعار وغيرها من المفردات التي تملأ قاموس حياتنا الاجتماعية ، حيث التقاليد العتيده والعادات المتوارثة _ كابراً عن كابر _ تُحكِم قبضتها على الأنسجة المكونة لعقليات رجعية قبلية تعيش على هامش الحاضر ، وتأبى أن تفارق أكفان الماضي الذي دفنت نفسها فيه ، ناهيك عن دخول مفردة المستقبل قاموسها اللغوي..
فالفتاة تعيش في هذا الجو البيئي المغشوش مع أمها المظلومة ، حيث أن جيل الأم كان جيلاً مظلوماً ، حرمت فيه المرأة من معظم حقوقها ، باسم الدين والعيب..!
فصارت أَمَةً في بيت زوجها ، أو بالأصح سيدها ( سي السيد كما في ثلاثية
" نجيب محفوظ" الشهيرة ، وشخصية السيد " أحمد عبدالجواد " ونظرة الذل والخضوع والإستكانة في عيني زوجته..)
فأبو الفتاة حطّم شيئاً ما بداخلها ، بعد أن كانت تراه _ كما ترى أي فتاة أباها _ كاملا منزهاً من كل عيب ..
فإذا به يتهاوى أمام عينيها في هاوية الخطيئة ، فهو يقول مالا يفعل ، ويأتي ما ينهى عنه ، بعد أن كان يُملي عليها قائمة المحرمات باسم الدين ، الذي جنى عليه مسلموا هذا العصر أيّما جناية..
إذ تراهم في مناظراتهم نُسّاكاً وقساوسة ، وفي تطبيقاتهم مسوخاً شيطانية ومستنقعات خطايا متحركة..!
فالفتاة ينقصها الوعي السليم ، وإلا فإن ردة فعلها في التعبير عن شخصيتها ستتخذ منحناً سلبياً ، سيكون له أثرٌ سيئٌ على مستقبلها..
وربما يقودها هذا الى الإنحراف..
قال وقد بدأ يتململ إستعداداً للإنصراف :
_ لقد قدرت هذا.. فبدأت بإعطائها بعض الكتب الدينية والتربوية النافعة والهادفة مما سيكون له الأثر الأكبر في تشكيل وعيها ، واتساع مداركها..
تمتمت ساهماً :
_ حسناً فعلت .. فبالقراءة والتوعية ستفهم الفتاة دينها ومجتمعها وحقوقها وواجباتها ، بعيداً عن " التابو" والغلو ، ومزج ماهو ديني بما هو قبلي ، لتبدأ رحلة جديدة من المعرفة والتنوير تقوم بها الفتاة الجديدة ، المستمسكة بثوابتها المأخوذة من الينابيع النقية التي لا تشوبها شائبة ، والآخذة بإيجابيات الحضارة بعيداً عن السطحية والقشور والزيف ..
المتفهمة لواقعها وعصرها ، وذلك ما ينقص أمتنا ..
نساء رصينات متفتحات ، يُعدِدن أجيالاً متميزة ، يعيدوا لنا مجدنا الغابر وحضارتنا التليدة..
كان هذا ختام حديثي لصاحبي وأنا أحاوره قبل أن ينصرف..
فجلست أفكر في أمر هذه الفتاة ، التي تمردت على واقعها وتقاليد مجتمعها الحديدية ، وسعت الى كسر الطوق الذي أحاطها به مجتمعها ..
" انتهت "
السياني .. ٢٠ _ أبريل _ ٢٠٠٢
============================================================
ترقب
غاصت الورقة داخل فتحة جهاز " الفاكس" العلوية ، لتبرز من الجهة الأخرى أسفل الجهاز ، فالتقطها بطرف أصابعه وأودعها بين أوراقه ، وأمل كبير يراوده أن تصل قصته القصيره التي كتبها وأودع فيها أسلوبه وفكرته ومعاناته ، الى تلك الصحيفة الأكثر رواجاً والأوسع انتشاراً ، ليعلم القراء بموهبته ويتعرفوا عليه..
فهذه هي المرة الأولى التي يرسل فيها بعمل أدبي الى الصحف ليطبع وينشر ..
أخذ ذلك المشهد يجول بذهنه بعد أن انطبع في ذاكرته وأبى أن يفارقها ، وهو جالس في منزله يترقب وينتظر صدور تلك الصحيفة التي أرسل إليها قصته..
فمنذ أرسلها بداية الأسبوع ، وحتى اليوم _ نهاية الاسبوع _ وهو يحسب الايام والساعات والدقائق ، في انتظار أن يقرأ عمله الأول في الصحف ..
الوساوس تنتابه ، والهواجس تقضّ مضجعه من عدم نشرها ، لا يريد ان يصطدم بعدم النشر ، لان ذلك سيحطمه ويقضي على أحلامه ، ويصيبه بالاحباط التام..
يجلس الان في غرفته ، ويفكر بالمطابع وهي تطبع المقالات والقصائد والقصص ويتخيل قصته بين تلك الاعمال الادبية ، فيزداد تلهفه وتتسع آماله..
ثم تهاجمه المخاوف من عدم نشرها ، فيتكوم حول نفسه ويصغر العالم في نظره ، ويشعر بالخوف من الفشل في تجربته الاولى ..
تذكر ان كثيرا من أصدقائه لم يحالفهم الحظ في نشر أعمالهم ، وان بعضهم عاود المحاولة ، والبعض الآخر يئس وأُحبط ، وفي كلتا الحالتين لم تنشر أعمالهم ..
ولكنهم لم يأبهوا أو يبالوا ..
لكنه يختلف..
هو يرى نفسه غيرهم ..إنه لا يشبههم ..
هو شديد الحساسية والتأثر ، رفض الصحيفة لقصته يعني انتحاره معنوياً ..
ويعني يأسه وإحباطه وعدم اعتراف بموهبته ..
باختصار يعني نهايته وخسارته لنفسه وتحطمه أمامها ..
وهو لا يريد أن يخسر نفسه..
الوقت يمضي بطيئاً ..اليوم هو موعد صدور الصحيفة ، وصاحب الكشك الموجود في نفس الشارع الذي يقطنه لم يفتح بعد..
أطلّ من النافذة ، هاهو يرى الكشك قد فتح أبوابه أخيرا..
يلبس سترته على عجل ويرتدي حذاؤه وينطلق مسرعاً الى الكشك..
_ صباح الخير ..
قالها بسرعة ..واضاف:
_ صحيفة " ..... " من فضلك ..
_ آسف يا صديقي .. لم يحضرها الموزع بعد..
رد صاحب الكشك وهو منشغل بصف وترتيب الصحف على الطاولة أمامه ، دون أن يرفع حتى نظره بوجهه..
قطب جبينه وأطلق تنهيدة تجمع بين التبرم والسخط والضيق ، وانطلق الى مقهى قريب فطلب فنجاناً من القهوة وأخذ ينتظر..
انتهى من شرب القهوة ، فطلب فنجاناً آخر..
الوقت يمر والموزع لم يصل بعد ، ينظر الى ساعته مراراً وتكراراً ..
_ تباً لهذا القلق..وهذه الصحيفة.. لماذا اليوم بالذات تأخرت عن موعدها..!!؟
كأن القدر يأبى إلا أن يعاندني..!!!
حدث نفسه..
لاحظ رواد المقهى حركاته العصبية ، ونظراته المتكررة لساعته ، لكنه لم يعر ذلك اهتماماً ..
انتصف النهار .. وموزع الصحف لم يأتي بعد ..
إنطلقت زفراته كحممٍ بركانية ، من شدة ضيقه وتبرمه..
صوت سيارة في نهاية الشارع ، يقطع عليه الاستمرار في حالته العصبية تلك ..
يلتفت نحوها بلهفة..
_ أخيراً ..إنها هي ..سيارة الموزع.. تباً لك ولصحيفتك..
نطق بهذه العبارة وهو يندفع نحو الكشك ، الذي وصلته السيارة في تلك اللحظة
والموزع يرمي بحزمة كبيرة من الصحف الى صاحب الكشك ، الذي ما أن رآه مقبلا نحوه ، حتى دفع له بنسخة من الصحيفة التي تلقاها بلهفة بعد ان دفع ثمنها وانطلق يتصفح عناوينها ويجول ببصره بين صفحاتها باحثاً عن بغيته ودقات قلبه تتزايد ، وأنفاسه تلهث ، ونظرات عينيه تسبق الكل وهي تستقر عند الصفحة الخاصة بنشر أعمال المواهب الجديدة ..
إندفعت نظراته بين العناوين والسطور تبحث عن قصته أواسمه..
ولكنها ارتدت خاسئة وهي حسيرة..!!!
شق عليه الأمر..و أصيب بالذهول والحسرة..
أبعد كل هذا الانتظار ، وهذا القلق ، والترقب..لا شيئ البته..!!!
_ تباً لك من صحيفة..وتباً لك من رئيس تحرير ..وتباً لكما من موزع وصاحب كشك..بل تباً لك من حياة..
ردد كل ذلك وهو يقذف بالصحيفة الى الارض ، ويدوسها بحذائه ، ثم يركلها الى نهاية الرصيف وهو يقول:
_ الى الجحيم أيها الأدب..الى الجحيم أيتها الموهبة ..!!!
وهام على وجهه في الشارع على غير هدى..وخواطر في رأسه تموج وتثور وتضطرب ..
لم يعرفوا أنهم بعدم نشر قصته ، انهم قد قضوا على أحلام أديب ناشئ ..
كان يصارع لإثبات نفسه ووجوده ..أديب يجاهد ليخرج من قمقم الجمود والانغلاق الى فضاء الحرية والابداع ..
لم يعرفوا انهم بتجاهلهم لقصته ، قد أعلنوا نعي كاتب وُئِدت أحلامه قبل أن ترى النور..!
" انتهت "
==
السياني ،، ٣٠ /ديسمبر/ ٢٠٠٣
===========================================================
نداء البحر.
أخيرا وطأت قدماي ثراكِ _ ولأول مرة _ يا عدن..
يا أجمل وأروع المدن..
الآن _ فقط _ عرفت سرّ تهافت الغزاة على شواطئك..
هذه الشواطئ التي أقف عليها الآن ، وانا أتطلع الى الأفق ، حيث الشمس بدأت تلملم أطراف ثوبها الذهبي على استحياء ، كعروس خجلى تدفقت دماء الخجل الى وجنتيها ، معلنةً الرحيل والبحر يستعد لاحتضانها..
ذلك البحر الذي يثير في الشوق والحنين لشيئٍ ما بداخله ..
خلعت ملابسي ووقفت أرقب الموجات الصغيرة ، وهي تتكسر عند قدميّ محدثةً صوتاً رنّ في أُذنيّ كأعذب موسيقى عزفتها يد الطبيعة الساحرة..
ألتفت يميناً ويساراً فأرى الأجساد شبه العارية مستلقيةً هنا وهناك ، كأوراق الخريف الجافة التي عصف بها تيار هوائي جبار ، لم يرحم ضعفها وعجزها ، أو كأسماك لم تتحمل صراع القوى داخل البحر ، فلفظها من جوفه لتستقر عند قدميه..
_ لبيك أيها البحر..
أطلقتها من أعماقي كأسير يتطلع الى الحرية ، ويشتاق لتنسم عبيرها..
واندفعت الى أحضانه..
شيئٌ ما في البحر يدعوني إليه..!
وأشعر أن في داخلي قوةً تدفعني نحوه ، فلا أملك مقاومةً سوى التوغل أكثر فأكثر..
الشمس بدأت تغوص حتى منتصفها في البحر ، مرسلةً أشعةً انكسرت على صفحات الماء مبدعةً أروع لوحة رسمتها يد فنان ..
حيث امتزجت الألوان الأرجوانية والقرمزية والفيروزية في مشهد طبيعي أخاذ..
_ لكم بت أحسدكم يا سكان " عدن" على هذه الطبيعة الآسرة ، التي تستثير خيال الشعراء والفنانين..
أحدث نفسي..
نداء خفي يدعوني إليه ، مبعثه الأعماق _ أعماق البحر _ وشيئ في داخلي يلح بإصرار أن أقدم ولا تحجم..!
كقطبين مغناطيسيين نتجاذب _ أنا والأعماق _ لا يستطيع أحدنا الفكاك من الآخر..
صوت واهن ينبعث من أعماقي أن عد ، ولكنني كنت أسير تلك الرغبة الجامحة ، وكأنني علي موعد مع حورية من حوريات البحر..!
فأزداد اندفاعا ..وأبتعد عن الشاطئ أكثر وأكثر..
آخر معاقل المقاومة داخلي تهاوت ، أمام الرغبة الشديدة في تلبية النداء..
أصوات تنبعث من الشاطئ البعيد ، وشعلة الشمس تنطفئ ، بعد أن غاصت في غمد البحر ..
والليل أرخى سدوله ، ولكني لم أحفل أو أهتم ..
كل ذلك لم يعد يعنيني في شيئ ، عندما استقر قراري على ان يستضيفني البحر في غياهبه..
حيث كنت أستجيب لذلك النداء..
نداء البحر..
" انتهت "
عدن . . ١١ _ مايو _ ٢٠٠١
=================================================================
هجرة شياطين وادي عبقر.
" وهكذا كنا وإياكم _ مشاهدينا الأفاضل _ مع هذه القامة الشعرية السامقة ، والمعجزة الأدبية الفذة ، والشخصية التي وصلت الى العالمية في ظرف زمني قياسي..
نأمل _ أعزاءنا _ أن تكونوا قد قضيتم معنا وقتاً ممتعاً ، بصحبة ضيفنا العزيز ..
وإلى اللقاء في حلقة قادمة من برنامجنا.." المشهد الأدبي " .
نطقت بهذه العبارة تلك المذيعة التلفزيونية المتألقة ، وشاشات التلفزة تنقل للمشاهدين في كل بقاع المعمورة ، عبر البث الفضائي الرقمي صورة ذلك الشاعر الجالس أمامها بوجهه الشاحب وعينيه الغائرتين وجبهته العريضه كأنه مومياء..
كانت ملامحه تحمل علامات النبوغ وسيماء الذكاء الخارق ، وتبدو على محياه أمارات العبقرية..
فالرجل ظهر الى الحياة الثقافية والأدبية فجأة ، من خلال أعمال تميزت بالجودة
والإبداع ، ونفذت الى عمق المشاعر الإنسانية ..
حتى أنه أبهر القراء والنقاد والقائمين على المشهد الثقافي ، وتجاوز قامات أدبية كان يشار اليها بالبنان في وقت قياسي قصير بلغ فيه العالمية ونال جائزة
" نوبل" للأدب .
ولم يكن هو فقط وحيد عصره وفلتة زمانه من مثّل هذه الطفرة الأدبية في زمن الجدب الثقافي ..
فقد ظهرت حالات أخرى متفرقة هنا وهناك ، في مجالات الشعر والقصة والرواية..
وامتلأت الصحف والمجلات والدوريات بمقابلاتهم وبأعمالهم الرائعة والإبداعية ، حتى أصبحت صورهم تتصدر الصحف وشاشات التلفاز ، ليزيحوا الشخصيات السياسية
والإجتماعية جانباً ، ليس في بلادنا فقط ، وإنما في جميع أنحاء العالم..
والعجيب ان ملامحهم _ بلا استثناء _ كانت تبدو متقاربة متشابهة بذلك الشحوب
والضمور في أجسادهم ، وكأنهم أشباح او بقايا بشر..!
أثار نبوغهم وملامحهم اهتمام العالم ..
فثارت حولهم ضجة من الأقاويل والإدعاءات ، والهجوم أيضاً ..
فقرر مجموعة من العلماء والمختصين والأطباء ، إخضاع عينات منهم للفحص كحالات إنسانية ،يجب دراستها ليقف العالم عليها ويستكنه ماهيتها..!
وبالفعل تم إخضاع عينة للفحص بالتنويم المغناطيسي ، وكانت النتائج مخيفة ومفاجئة ، فقد تكلم أحدهم قائلا:
_ قد تستغربوا سرّ هذا الظهور المفاجئ لنا ، والنبوغ العبقري في المجال الثقافي
الأدبي ..
ولكننا لم ننبغ في الأدب فقط ..
فنحن عباقرة في كل المجالات وفي شتى العلوم..
لا غرابة في ذلك ، خاصة وأننا ننتمي الى ذلك الوادي الشهير في جزيرة العرب
" وادي عبقر " ، ذلك الوادي الذي كان الشعراء العرب الأوائل يذهبون إليه ، ويلتقوا بشياطينه ليستلهموا منهم قرض الشعر ، فتجود قرائحهم بأعذب الشعر وأروعه..
وكان لكل شاعر شيطان خاص به ..
كان "وادي عبقر " يقع في منطقة معزولة ساكنة لم تلوثها يد الحضارة والعمران ، وكنا نعيش فيه بأمان وهدوء ، دون أن يعكر صفونا شيئ ..
حتى أتى القرن العشرين ، قرن اكتشاف المعادن والبترول ، وكان وادي عبقر منطقة اكتشف فيها البترول ، فامتلأت بالبشر والآلات والمعدات ، فبدأنا نتململ ونتضايق من كل ذلك ، فقررنا الهجرة ، وكلّ له أسبابه..
فالبعض هاجر بسبب الانفتاح في المنطقة..
والبعض اعتراضاً على التدخل الأمريكي في أرضنا..
والبعض الآخر هام في الشقراوات الامريكيات والاوروبيات اللاتي ملأن البر ، فاحتلوا أجسادهن ، وهاجروا معهن..
وآخرين لأسباب خاصة بهم..
تعددت الاسباب والموقف واحد ..وهو الهجرة..
المهم أننا بعد هجرتنا لم نكن سلبيين ، بل تحركنا وتعلمنا علوم ولغات العالم وقمنا
باحتلال أجساد ضحايانا وتحركنا من خلالهم ..
فهذا هو سبب شحوبهم وهزال أجسادهم ..
فقد أصبحوا أجساداً بلا أرواح ..
نحركهم ونتحكم بأجسادهم كيفما نشاء..
فسيطرتنا لا تقتصر على بلد واحد فقط ، بل تعدينا ذلك الى كل المواقع الحساسة
والهامة في هذا الكوكب ، وما منا إلا وله مركز مرموق..
نحن أصحاب نظرية العولمة ..
نحن أصحاب السيطرة ..
السيطرة المطلقة..
أطلق ضحكةً شيطانيةً مجلجلة ، وصدى صوته يبتعد..
ويبتعد..
ويبتعد..!
" انتهت "
السياني،، ١٤ _ مارس _ ٢٠٠١
=================================================================